الجمعة، 12 مايو 2017

الرّئاسيّة الفرنسيّة، محاولة مغبونة لدفن السّائد الفاشل...

انتهت الدّورة الأولى من الانتخابات الرّئاسيّة الفرنسيّة بنتائج قلبت المشهد السّياسي تزامناً مع التّغيّرات العالميّة، المشهد الّذي كان محكوماً بقسمة تاريخيّة بين "يسار" ويمين تناوباً على الحكم في الجمهوريّة الخامسة برؤساء ديغوليّين أو اشتراكيّين



إحسان المصري / حكمت غصن 
نتائج الدّورة الأولى كانت متوقّعة؛ إن كان عبر استطلاعات الرّأي، أو بتحليل الرّأي العام وعقليّة النّاخبين وتأثير نمط الحياة والثّقافة والميديا، فالمسلّمات في المجتمع الفرنسيّ كالخوف من "التّطرّف"، والميل إلى "الاعتدال"، والحرص على البقاء ضمن الاتّحاد الأوروبّيّ، كما الهجوم الإعلاميّ الشّرس على اليسار الرّاديكاليّ بهدف التّضليل والتّشويه، كانت عوامل كافية لحسم المعركة ولو بصعوبة لافتة.

بالأرقام...
في النّتائج، حصد مرشح الوسط اللّيبراليّ ماكرون أعلى نسبة (23.6%)، وتأهّل إلى الدّورة الثّانية مع مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبّان (21.6%). أبرز الخاسرين كان مرشح الجمهوريّين رئيس الحكومة السّابق فيّون (19.8%)، ومرشّح اليسار الرّاديكاليّ جان لوك ميلونشون (19.2%) وخلفهما بنسبة متواضعة مرشّح الحزب الاشتراكيّ بنوا هامون (6.5%). 
في معظم المدن الأساسيّة، تصدّر ماكرون يليه ميلونشون، باستثناء بعض المدن كتولوز وليل ومونبيلييه ولوهافر (المدينة العمّاليّة)، حيث تصدّر ميلونشون الّذي كان يحظى بنسبة 11% عام 2012، والّذي تمكّن أيضاً من الفوز في الأراضي الفرنسيّة "ما وراء البحار"، أمّا ما مكّن لوبّان من التّقدّم فكان الرّيف وبعض التّجمّعات الكبرى في مارسيليا مثلاً، في حين شكّلت العاصمة باريس كابوسها المؤلم.(4.99%) 
"دقّ الخطر"...
بعد صدور النّتائج الأوّليّة، مباشرةً، تداعت القوى التّقليديّة (هامون عن الحزب الاشتراكيّ، فيّون وألان جوبّيه عن اليمين، وغيرهم كثر)، لدعوة الشّعب الفرنسيّ إلى التّوحّد خلف ماكرون لردّ الخطر المصيريّ على الجمهوريّة، وسادت هستيريا في استديوهات المحطّات الفرنسيّة وكأنّها إعلان الجهاد المقدّس ضدّ "الانعزال". ولكن وفي ظلّ هذا التّكتّل، رفعت لوبّان خطاباً يعيد تموضع القوى لصالحها، لتحاول أن تجعل من نفسها "مرشّحة الشّعب" في وجه "النّخبة"، كما حاولت استعطاف ناخبي اليمين عبر اقتباس مقولات ديغوليّة، وناخبي اليسار لا سيّما الأراضي الفرنسيّة ما وراء البحار، عبر ذكرهم في خطابها، وعبر نسخ بعض بنود مشروع ميلونشون.
لكنّ الأكثر سعادة في ظلّ هذه الهستيريا هو المرشح الشّاب إيمانويل ماكرون، ذو الخطاب الغامض الّذي يصف نفسه "بالحديث"، لا يساراً ولا يميناً، وهو عديم التّجربة السّياسيّة باستثناء تولّيه وزارة الاقتصاد في عهد هولاند. وقد دعمه وسطيّون ويمينيّون وليبراليّو الحزب الاشتراكيّ، كما يعرف بالإبن المدلّل لرؤوس الأموال والمصارف.
دروس في التّحوّلات الكبرى...
إنّ نتيجة الدّورة الأولى، لم تكن سوى موقف سياسيّ شعبيّ، يعلن سحب الثّقة من القوى التّقليديّة السّائدة، فاليمين المحافظ وللمرّة الأولى لا يصل إلى الدّورة الثّانية، أمّا الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ فيحصد أسوأ نتيجة منذ عام 1969، وما هذا إلّا دليل على فشل هذين النّموذجين اللّيبراليّين في الجوهر. والّذي يؤكّد المؤكّد، أنّ القوى غير التقليديّة هي من حصدت النّسب الأعلى، فماكرون وفي تلك اللّحظات شكّل بالنّسبة للفرنسيّين "شاب، جديد على السّاحة، يعد بمشروع حديث"، أمّا لوبّان فهي خيار غير مألوف في السّياسة الفرنسيّة، واليسار الرّاديكاليّ قدّم خطابا علميا بعد طول غياب. تجدر الإشارة أنّ الحزب الاشتراكيّ سيكون أمام أزمة عميقة بعد ما حصده هامون وهو مرشّح اليسار في الحزب، وقد تتزايد الانشقاقات في صفوفه أو يعاد تكوينه بعد دعم كثير من قياداته لماكرون علناً في خيانة فاضحة لمرشّحهم الرّسميّ. أمّا الجمهوريون فهم أيضاً أمام أزمة تتجلّى بتحميل الكثير من قياداتهم لفيّون مسؤوليّة الهزيمة بعد إصراره على التّرشّح رغم الفضائح الماليّة الّتي طاولته هو وعائلته.
وفي اليسار دروس أيضاً...
في تعليق أوّليّ له، قال بيار لوران أمين عام الحزب الشّيوعيّ الفرنسيّ بعد إعلان دعمه على مضض لماكرون فقط لقطع الطّريق على لوبّان، أنّه حذّر من المخاطرة بمرشّحين لليسار منذ عام، ولكنّ الأهم هو تعليقه على نتائج الحزب الاشتراكيّ، حيث اعتبر أنّ نموذج "المشتقّات اليساريّة اللّيبراليّة" على يد أمثال مانويل فالس وهولّاند قد سقط، وأنّه يدعو اليسار إلى بناء نموذج حديث مع حزبه وحركة ميلونشون. وقد سُمع في الفضاء السّياسيّ نعوات صريحة للحزب الاشتراكيّ وأنّه "لم يعد له لزوم" على حدّ قول أحد المحلّلين، اعتبر الرّأي العام أنّه يتحمّل مسؤوليّة وصول لوبّان وسقوط ميلونشون. أمّا الأخير، ورغم خيبة أمله الواضحة، فقد حقّق نتيجة مشرّفة تليق ببرنامجه وحملته وكان بالفعل يستطيع الوصول إلى الدّورة الثّانية لو تنازل هامون لمصلحته، أو لو لم يتكثّف الهجوم الإعلاميّ ضدّه، والتّرهيب من اليسار "المتطرّف" ووصفه بشافيز وستالين واتهامه بالجموح نحو الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ، وعلى الرغم من كلّ ذلك استطاع تحقيق تقدّم هائل بنتيجة تذكّر بنسب الحزب الشّيوعيّ بعد الحرب العالميّة الثّانية حيث كان آنذاك القوّة الرّئيسيّة في البلاد، وبهذا أثبت اليسار الجذريّ أنّه الوحيد القادر على التّقرّب من النّاس، رغم خسارته الطّبيعيّة غير المطلقة للمعركة، بعد أكثر من أعوام ثلاثين نمط حياة وعلاقات ليبراليّ ومسلّمات وتضليل، فمخطئ من يعتقد أنّ عاماً سيكون كافياً لقلب الموازين بشكل نهائيّ.
ماذا بعد...؟ 
ربّما استيقظ الشّعب الفرنسيّ متأّخّراً على هول الصّدمة، بعد النّتائج المخزية بوصول لوبّان إلى الدّورة الثّانية، مع الإدراك الضّمنيّ بأنّ ماكرون لا يمثّل إلّا تكرارا للسّياسات النّيوليبيراليّة الّتي أوصلت البلاد إلى الأزمة الحاليّة، فقد استطاع ماكرون انتهاز الفرصة واللّحظة لاستقطاب الرأي العام في ظلّ التّهويل من الشّعبويّة والتّطرّف "الأحمر"، وفي ظلّ تسطيح مفهوم الحداثة واقتصاره على العمر والتّجربة، كما تأليه الشّعارات كالحرّيّة والدّيمقراطيّة، دون الإدراك أنّها لا تطبّق في ظلّ الحكم الرّأسماليّ، وهذا ليس سوى نتيجة طبيعيّة للضخّ الثّقافيّ منذ أكثر من ثلاثة عقود، وبرغم كلّ هذا، يشعر الفرنسيّون أنّ شيئاً لن يتغيّر، وأنّهم مغبونون، فنيّتهم الحقيقيّة كانت دفن السّائد الّذي فشل.
من المرجّح، بعد تكتّل مختلف القوى السّياسيّة ضدّ لوبّان، أن يفوز ماكرون في الدورة الثانية رغم أنّ هذا غير مؤكّد. واللّافت موقف ميلونشون المبدئيّ بعدم التّصويت لكليهما، وتحكيم القرار لقاعدته الشّعبيّة، الّتي رفضت بالمطلق دعم لوبّان، وطالبت ماكرون بتنازلات.
في الخلاصة، إنّ الدّورة الأولى لم تكن أقلّ من إعادة تشكيل للمشهد السّياسيّ الفرنسيّ برمّته، وتغيير جذريّ فيه، ومساء السّابع من أيّار، إمّا يعود القديم بقناع "حديث"، إمّا يتأزّم النّظّام وتتفاقم تناقضاته، وفي الحالتين تلك، إنّ المعركة مستمرّة، وحزيران يحمل معه دروسا جديدة في الانتخابات التّشريعيّة، وكما يقول الرّفيق غرامشي: "عالم قديم يموت، وعالم جديد يكافح ليولد، إنّه زمن الوحوش"... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق